نتائج البحث:

من ذكرياتي

من ذكرياتي

 

 

 

 هــل تذكــر عندمــا وقعــت عــلى ماكينــة صــب احجــار الخفــان وجرحــت جبينــك؟ وهــل تذكــر كيــف جئــت مرعــاً الى حيــث كنــت اجلــس وامــك مــع مضيفنــا في تلك القريــة الصغــيرة الواقعــة عــلى تلــة تناثــرت عليهــا الخرفــان فبــدت وكأنهــا صخــور بيضــاء تزيــن الحقــول التــي كانــت تنتظــر ســكة الفــلاح. قــد تكــون لا تــزال تذكــر الرخــة التــي أطلقتهــا امــك وكادت ان يغمــى عليهــا، وكيــف أسرعــت اليــك مضيفنــا نســألك عــما حــدث، ومــن اعتــدى عليــك. كان ردك بصــوت شــبه طبيعــي بــان احــداً لم يعتــد عليــك، وإنــك وقعــت بينــما كنــت تركــض للإختبــاء مــن واحــد مــن أقرانــك، إذ كنتــم تلعبــون لعبــة الاســتغماية. كان ردي إن أمســكت بيــدك واسرعــت مــع مضيفنــا إلى الســيارة نحملــك فيهــا إلى البلــدة القريبــة لنبحــث عــن طبيــب يتــولى تضميــد جرحــك. اذكــر اننــا قصدنــا عــدة عيــادات ولم نوفــق في ايجــاد طبيــب، أكــثر ذكاء مــن المواطــن فاليــوم يــوم عطلــة، فاقــترح مضيفنــا التوجــه إلى مكتــب الطبيــب الشعــي، فبرغــم أن عملــه ينحــر في كتابــة وإعطــاء التقاريــر الطبيــة للإصابــات الحاصلــة نتيجــة اعتــداءٍ، أو اذنــاً للموظــف بالتغيــب عــن عملــه بســبب المــرض. كان الطبيــب الشعــي ولحســن الحــظ في عيادتــه، وجدنــاه يجلــس وراء مكتبــه يتصفــح صحيفــة يوميــة قديمــة، و تتــدلى مــن فمــه ســيجارة أصبــح أكثرهــا رمــاداً لا يــزال يتمســك بعقــب الســيجارة وكأنــه يخــاف الوقــوع مــع مــا ســبقه عــلى ســترة الطبيــب. شرحنــا للطبيــب مــا حــدث، ونظــر إليــك ليســألك عــن اســمك وعمــرك ومــن أيــن أنــت ومــن نحــن بالنســبة إليــك. كان يســأل وقطــرات الــدم تســقط عــلى قميصــك الملونــة وتزيــد لــون الــدم القــاني الى الوانهــا. أذكــر أننــي غضبــت وطلبــت الى الطبيــب الاعتنــاء بــك ووقــف النزيــف وقلــت لــه بأننــي ســاكون عندها مســتعداً للــرد عــلى كل اســئلته. تــرك الطبيــب كرســيه وســار بخطــى وئيــدة الى خزانــة موضوعــة قــرب الحائــط. مــد يــده الى داخلهــا وســحب بعــض القطــن والمعــدات الطبيــة، ولم يتوقــف عــن توجيــه الحديــث اليــك وحــدك، وكأني ومضيفنــا غــير موجوديــن في الغرفــة. طلــب الطبيــب منــك «العربشــة» عــلى طاولــة الفحــص والتــي رأت ولا شــك افضــل ايامهــا منــذ عــشات الســنين، فطلاؤهــا كان لا يظهــر إلا بشــكل لطخــات بيضــاء عــلى الحديــد الصــدئ فيبــدو أنهــا تخجــل مــن إظهــار نفســها، أمــا المــلاءة التــي كانــت تغطيهــا فيبــدو وكأنهــا لم تــرَ المــاء منــذ الشــتاء المــاضي. بــدأ الطبيــب الاعتنــاء بجرحــك، لكنــه لم يتوقــف لحظــة واحــدة عــن التحــدث اليــك وطــرح الســؤال تلــو الســؤال عليــك، ويحثــك عــلى الاجابــة عندمــا كنــت تتمهــل في ذلــك. قــال فيــما قالــه لــك بأنــك محظــوظ لأن جرحــك لــن يســتدعي ســوى ثــلاث قطــب، وحظــك أكــبر لأنــك لــن تضطــر للخضــوع لطلــب امــك غســل وجهــك بالمــاء والصابــون كل صبــاح، او الاســتحمام، فهــو يعــرف أن أولاده يكرهــون الاســتحمام. لكــن حظــك لــن يكفــي إلا لأســابيع ثلاثــة دون اســتحمام أو الحــاق البلــل براســك، لكــن لا بأس عليــك لــو اتعبــت أمــك بمســح جســدك بالمــاء والصابــون، فهــذا ولا شــك افضــل مــن الاســتحمام خصوصــاً إذا كان الطقــس بــارداً. انهــى الطبيــب عملــه بوضــع شريــط طبــي لاصــق عــلى جبينــك ومــن ثــم التفــت إلي ومضيفــي قائــلاً: لقــد عــاد جديــداً كــما كان ولم يلحــق بــه أي تغيــير ســوى الشيــط اللاصــق. شــكرنا الطبيــب وســألناه عــن قيمــة أتعابــه فضحــك وقــال بــان عليــه ان يدفــع لنــا لاننــا جئنــا بمــا يســليه في يومــه الضجــر، فالبلــدة صغــيرة ولا مشــاكل فيهــا ولا موظفــين، فالــكل يعمــل إمــا في ارضــه او متجــره ولا ضرورة لأحــد للتهــرب مــن وظيفــة أو واجــب. إلتفــت إلى الطبيــب وقال: أمــا انــت يــا ســيدي فمــن الــلازم عليــك ان تتعلــم كيــف تأخــذ نفســاً و»تُطَــوِّل بالــكَ » فعــدم إهتمامــي كما ســميته كان لمجــرد ان اعــرف مــدى إصابــة ابنــك وعــما إذا كانــت الصدمــة قــد ســببت أكــثر مــن نــزف بضــع قطــرات مــن الــدم، لكــن، والحمدللــه كل شيء عــلى مــا يــرام. عدنــا الى بيــت مضيفنــا لنجــد امــك وقــد اصفــر وجههــا، وعــلا الاضطــراب محياهــا والقلــق يتملكهــا. أسرعــت إليــك تضمــك وتســألك عــن حالــك وعــما يشــعر بــه. امــا ردك فــكان، وكعــادتي بــك» الا تريــن بأننــي جريــح فدعينــي اعــاني مــن المــي لوحــدي؟. مــى بعــض الوقــت ورأيتــك تتســلل مــن الغرفــة التــي كنــا نجلــس فيهــا لتذهــب الى اقرانــك تحــاول عبثــاً إقناعهــم بمتابعــة لعبــة الاســتخباء، لكنهــم رفضــوا واكتفــوا بالجلــوس عنــد اقدامــك يحدقــون في وجهــك مصغــين الى حكايتــك مــع الطبيــب والى كل مــا كنــت تقصــه عليهــم. أذكــر ايضــاً أنــك، وبعــد عــدة أســابيع عندمــا كنــت في طريقــك لزيــارة جدتــك انــك ذهبــت الى احــد اصدقــائي مــن الاطبــاء وطلبــت اليــه ازالــة الــشط اللاصــق والغرزات الطبيــة، لأن مجــرد رؤيتهــا ســيدخل القلــق إلى قلــب جديــك. إن كنــت أنــت قــد نســيت فأنــا لم انــسَ بعــد.



 

 

الكاتب: عصام مصري